فصل: فصل: (الشفعة للصغير)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكافي في فقه الإمام أحمد ***


كتاب‏:‏ الشفعة

وهي استحقاق انتزاع الإنسان صحة شريكه من مشتريها مثل ثمنها وهي ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى جابر قال‏:‏ ‏[‏قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به‏]‏ رواه مسلم وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة ولا تثبت إلا بشروط سبعة‏.‏

أحدها‏:‏ أن يكون المبيع أرضا للخبر ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك بخلاف غيره فأما غير الأرض فنوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ البناء والغراس فإذا بيعا مع الأرض ثبتت الشفعة فيه لأنه يدخل في قوله حائط وهو البستان المحوط ولأنه يراد للتأبيد فهو كالأرض وإن بيع منفردا فلا شفعة فيه لأنه ينقل ويحول وعن أحمد رضي الله عنه أن فيه شفعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الشفعة فيما لم يقسم‏]‏ ولأن في الأخذ بها رفع ضرر الشركة فأشبه الأرض والمذهب الأول لأن هذا مما لا يتباقى ضرره فأشبه المكيل وفي سياق الخبر ما يدل على أنه أراد الأرض لقوله‏:‏ فإذا طرقت الطرق فلا شفعة‏.‏

النوع الثاني‏:‏ الزرع والثمرة الظاهرة والحيوان وسائر المبيعات فلا شفعة فيه تبعا ولا أصلا لأنها لا تدخل في البيع تبعا فلا تدخل في الشفعة تبعا وعن أحمد رضي الله عنه أن الشفعة في كل ما لا ينقسم كالحجر والسيف والحيوان وما في معناه ووجه الروايتين ما ذكرناه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الشرط الثاني من شروط الشفعة‏]‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يكون المبيع مشاعا لما روى جابر قال‏:‏ ‏(‏قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة‏)‏ رواه البخاري ولأن الشفعة ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق ولا يوجد هذا في المقسوم‏.‏

فصل‏:‏ الشرط الثالث

أن يكون قيمته مما تجب قسمته عند الطلب فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا شفعة فيه لما روي عن عثمان رضي الله عنه قال‏:‏ لا شفعة في بئر ولا نخل ولأن إثبات الشفعة إنما كان لدفع الضرر الذي يلحق بالمقاسمة وهذا لا يوجد فيما لا يقسم وعن أحمد رضي الله عنه‏:‏ أن الشفعة تثبت فيه لعموم الخبر ولأنه عقار مشترك فثبتت فيه الشفعة كالذي يمكن قسمته والمذهب الأول فأما الطريق في درب مملوك فإن لم يكن للدار طريق سواها فلا شفعة فيها لأنه يضر بالمشتري لكون داره تبقى بلا طريق وإن كان لها غيرها ويمكن قسمتها بحيث يحصل لكل واحد منهم طريق ففيها الشفعة لوجود المقتضي لها وعدم الضرر في الأخذ بها وإن لم يمكن قسمتها خرج فيها روايتان كغيرها‏.‏

فصل‏:‏ الشرط الرابع

أن يكون الشقص منتقلا بعوض فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه لأنه انتقل بغير بدل أشبه المورث والمنتقل بعوض نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما عوضه المال كالمبيع ففيه الشفعة بالإجماع والخبر ورد فيه‏.‏

الثاني‏:‏ ما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد وما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير فلا شفعة فيه في ظاهر المذهب لأنه انتقل بغير مال أشبه الموهوب ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض أشبه الموروث وقال ابن حامد‏:‏ فيه الشفعة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فعلى قوله يأخذ الشقص بقيمته لأن أخذه بمهر المثل يفضي إلى تقويم البضع فيحق الأجانب ذكره القاضي وقال الشريف يأخذه بمهر المثل لأنه ملكه ببدل لا مثل له فيجب الرجوع إلى قيمته كما لو اشتراه بعوض ولا تجب الشفعة بالرد بالعيب والفسخ بالخيار أو الاختلاف لأنه فسخ للعقد وليس بعقد ولا برجوع الزوج في الصداق أو نصفه قبل الدخول لذلك ولا بالإقالة إذا قلنا هي فسخ لذلك‏.‏

فصل‏:‏ الشرط الخامس

الطلب بها على الفور ساعة العلم فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة قال أحمد‏:‏ الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم لما روي عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الشفعة كالحل العقال‏]‏ رواه ابن ماجه ولأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ولا يتصرف فيه بعمارة خوفا من أخذ المبيع وضياع عمله وقال ابن حامد‏:‏ تتقدر بالمجلس وإن طال لأنه كله في حكم حالة العقد بدليل صحة العقد بوجود القبض لما يشترط قبضه فيه وعن أحمد‏:‏ أنه على التراخي ما لم توجد منه دلالة على الرضى كقوله‏:‏ بعني أو صالحني على مال أو قاسمني لأنه حق لا ضرر في تأخيره أشبه القصاص والمذهب الأول لكن إن أخره لعذر مثل أن يعلم ليلا فيؤخره إلى الصباح أو لحاجته إلى أكل أو شرب أو طهارة أو إغلاق باب أو خروج من الحمام أو لصلاة أو نحو هذا لم تبطل شفعته لأن العادة البداءة بهذه الأشياء إلا أن يكون حاضرا عنده فيترك المطالبة فتبطل شفعته لأنه لا ضرر عليه في الطلب بها وإن لقيه الشفيع فبدأه بالسلام لم تبطل شفعته لأن البدء بالسلام سنة وكذلك إن دعا له فقال بارك في صفقة يمينك لاحتمال أن يكون دعا له في صفقته لأنها أوصلته إلى شفعته وإن أخر الطلب لمرض أو حبس أو غيبة لم يمكنه فيه التوكيل ولا الإشهاد فهو على شفعته لأنه تركه لعذر وإن قدر على إشهاد من تقبل شهادته فلم يفعل ولم يسر في طلبها من غير عذر بطلت شفعته لأنه قد يترك الطلب زهدا أو للعذر فإذا أمكنه تبيين ذلك بالإشهاد فلم يفعل بطلت شفعه كترك الطلب في حضوره وإن لم يشهد وسار عقيب علمه ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تبطل لأن السير قد يكون لطلبها أو لغيره فوجب بيان ذلك بالإشهاد كما لو لم يسر‏.‏

والثاني‏:‏ لا تبطل لأن سيره عقيب علمه ظاهر في طلبها فاكتفي به كالذي في البلد وإن أشهد ثم أخر القدوم لم تبطل شفعته لأن عليه في العجلة ضررا لانقطاع حوائجه وقال القاضي‏:‏ تبطل إن تركه مع الإمكان وإن كان له عذر فقدر التوكيل فلم يفعل ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تبطل شفعته لأنه تارك للطلب مع إمكانه فأشبه الحضر‏.‏

والثاني‏:‏ لا تبطل لأنه إن كان بجعل ففيه غرم وإن كان بغيره ففيه منة وقد لا يثق به وإن أخر المطالبة بعد قدومه وإشهاده ففيه وجهان بناء على تأخير السير لطلبها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن ترك طلب الشفعة‏]‏

فإن ترك الطلب لعدم علمه بالبيع أو لكون المخبر لا يقبل خبره أو لإظهار المشتري أن الثمن أكثر مما هو أو أنه اشترى البعض أو اشترى بغير النقد الذي اشترى به أو أنه اشتراه لغيره أو أنه اشتراه لنفسه وكان كاذبا فهو على شفعته ولو عفا عن الشفعة لذلك لم تسقط لأنه قد لا يرضاه بالثمن الذي أظهره أو لأنه لا يقدر على النقد وقد يرضى مشاركة من نسب إليه البيع دون من هو له في الحقيقة فلم يكن ذلك رضى منه بالبيع الواقع وإن أظهر الثمن قليلا فترك الشفعة وكان كثيرا سقطت لأنه من لا يرضى بالقليل ولا يرضى بأكثر منه فإن ادعى أنه لم يصدق المخبر وهو ممن يقبل خبره الديني سقطت شفعته رجلا كان أو امرأة إذا كان يعرف حاله لأن هذا من باب الإخبار وقد أخبره من يجب تصديقه وإن لم يكن المخبر كذلك فالقول قوله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن باع الشفيع حصته عالما بالبيع‏]‏

فإن باع الشفيع حصته عالما بالبيع بطلت شفعته لأنها ثبتت لإزالة ضرر الشركة وقد زال ببيعه وإن باع قبل العلم فكذلك عند القاضي‏:‏ لذلك ولأنه لم يبق له ملك يستحق به وقال أبو الخطاب لا تسقط لأنها ثبتت بوجود ملكه حين البيع وبيعه قبل العلم لا يدل على الرضى فلا تسقط وله أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه ولمشتريه أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه لأنه كان مالكا حين البيع الثاني ملكا صحيحا فثبتت له الشفعة وعلى قول القاضي‏:‏ للمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني وإن باع الشفيع البعض احتمل سقوط الشفعة لأنها استحقت بجميعه وقد ذهب بعضه فسقط الكل ويحتمل أن لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع‏.‏

فصل‏:‏ الشرط السادس

أن يأخذ جميع المبيع فإن عفا عن البعض أو لم يطلبه سقطت شفعته لأن من أخذ البعض تفريقا لصفقة المشتري وفيه إضرار به وإنما ثبتت الشفعة على وجه يرجع المشتري بماله من غير ضرر به فمتى سقط بعضها سقطت كلها كالقصاص فإن كان المبيع شقصين من أرضين فله أخذ أحدهما لأنه يستحق كل واحد منها بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين ويحتمل ألا يملك ذلك لأن فيه تفريق صفقة المشتري أشبه الأرض الواحدة وإن كان البائع أو المشتري اثنين من أرض أو أرضين فله أخذ نصيب أحدهما لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان فهما عقدان فكان له الأخذ بأحدهما كما لو كانا متفرقين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن كان للشقص شفعاء‏]‏

فإن كان للشقص شفعاء فالشفعة بينهم على قدر حصصهم في الملك في ظاهر المذهب لأنه حق يستحق بسبب الملك فيسقط على قدره كالإجارة والثمرة‏.‏

وعنه‏:‏ أنها بينهم بالسوية اختارها ابن عقيل لأن كل واحد منهم يأخذ الكل لو انفرد فإن اجتمعوا تساووا كسراية العتق فإن عفا بعضهم توفر نصيبه على شركائه وليس لهم أخذ البعض لأن فيه تفريق صفقة المشتري وإن جعل بعضهم حصته لبعض شركائه أو لأجنبي لم يصح وكانت لجميعهم لأنه عفو وليس بهبة وإن حضر بعض الشركاء وحده فليس له إلا أخذ الجميع لئلا تتبعض صفقة المشتري فإن ترك الطلب انتظارا لشركائه ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تسقط شفعته لتركه طلبها مع إمكانه‏.‏

والثاني‏:‏ لا تسقط لأن له عذرا وهو الضرر الذي يلزمه بأخذ صاحبيه منه فإن أخذ الجميع ثم حضره الثاني قاسمه فإذا حضر الثالث قاسمهما وما حدث من النماء المنفصل في يد الأول فهو له لأنه حدث في ملكه وإن أراد الثاني الاقتصار على قدر حقه فله ذلك لأنه لا تتبعض الصفقة على المشتري إنما هو تارك بعض حقه لشريكه فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني وهو التسع فيضمه إلى ما في يد الأول وهو الثلثان تصير سبع أتساع يقتسمانها نصفين لكل واحد منهما ثلاثة أتساع ونصف تسع وللثاني تسعان ولو ورث اثنان دارا فمات أحدهما عن ابنين فباع أحدهما نصيبه فالشفعة بين أخيه وعمه لأنهما شريكان للبائع فاشتركا في شفعته كما لو ملكا بسبب واحد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن كان المشتري شريكا‏]‏

وإن كان المشتري شريكا فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر لأنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو كان الشريك أجنبيا فإن أسقط المشتري شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل لم يملك ذلك لأن ملكه استقر على قدر حقه فلم يسقط بإسقاطه وإن كان المبيع شقصا وسيفا صفقة واحدة فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن نص عليه ويحتمل أن لا يجوز لئلا تتشقص صفقة المشتري والصحيح الأول لأن المشتري أضر بنفسه حيث جمع في العقدين فيما فيه شفعة وما لا شفعة فيه‏.‏

فصل‏:‏ الشرط السابع

أن يكون الشفيع قادرا على الثمن لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري وإن عرض رهنا أو ضمينا أو عوضا عن الثمن لم يلزمه قبوله لأن في تأخير الحق ضررا وإن أخذ بالشفعة لم يلزم تسليم الشقص حتى يتسلم الثمن فإن تعذر تسليمه قال أحمد‏:‏ يصبر يوما أو يومين أو بقدر ما يرى الحاكم فأما أكثر فلا فعلى هذا إن أحضر الثمن وإلا فسخ الحاكم الأخذ ورده إلى المشتري فإن أفلس بعد الأخذ خير المشتري بين الشقص وبين أن يضرب مع الغرماء كالبائع المختار‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏تقدير الثمن في الشفعة‏]‏

ويأخذه بالثمن الذي استقر العقد عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر‏:‏ ‏[‏فهو أحق به بالثمن‏]‏ رواه أبو إسحاق الجوزجاني ولأنه استحقه بالبيع فكان عليه الثمن كالمشتري فإن كان الثمن مثليا كالأثمان والحبوب والأدهان وجب مثله وإن كان غير ذلك وجب قيمته لما ذكرنا في الغصب وتعتبر قيمته حين وجوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذي وجب بالشفعة فإن حط بعض الثمن عن المشتري أو زيد عليه في مدة الخيار لحق العقد ويأخذه الشفيع بما استقر عليه العقد لأن زمن الخيار كحال العقد وما وجب بعد ذلك من حط أو زيادة لم تلزم في حق الشفيع لأنه ابتداء هبة فأشبه غيره من الهبات وإن كان الثمن مؤجلا أخذ به الشفيع إن كان مليا وإلا أقام ضمينا مليا وأخذ به لأنه تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته والتأجيل من صفته وإن كان الثمن عبدا فأخذ الشفيع بقيمته ثم وجد به البائع عيبا فأخذ أرشه وكان الشفيع أخذ بقيمته سليما لم يرجع عليه بشيء لأن الأرش دخل في القيمة وإن أخذ بقيمته معيبا رجع عليه بالأرش الذي أخذه البائع من المشتري لأن البيع استقر بعبد سليم وإن رد البائع العبد قبل أخذ الشفيع انفسخ العقد ولا شفعة لزوال السبب قبل الأخذ ولأن في الأخذ بالشفعة إسقاط حق البائع من استرجاع المبيع وفيه ضرر ولا يزال الضرر بالضرر وإن رده بعد أخذ الشفيع رجع بقيمة الشقص وقد أخذه الشفيع بقيمة العبد فإن كانتا مختلفتين رجع صاحب الأكثر على الآخر بتمام القيمة لأن الشفيع يأخذ بما استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص وإن أصدق امرأة شقصا وقلنا تجب الشفعة فيه فطلق الزوج قبل الدخول والأخذ بالشفعة ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا شفعة لما ذكرنا‏.‏

والثاني‏:‏ يقدم حق الشفيع لأنه حق أسبق لأنه ثبت بالعقد وحق الزوج بالطلاق بخلاف البائع فإن حقه ثبت بالعيب القديم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏اختلاف الشفيع والمشتري في قدر الثمن‏]‏

فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه العاقد فهو أعلم بالثمن ولأن المبيع ملكه فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة وإن قال المشتري لا أعلم قدر الثمن فالقول قوله لأنه أعلم بنفسه فإن حلف سقطت الشفعة لأنه لا يمكن الأخذ بغير ثمن ولا يمكن أن يدفع إليه مالا يدعيه إلا أن يفعل ذلك تحيلا على إسقاطها فلا تسقط ويؤخذ الشقص بقيمته لأن الغالب بيعه بقيمته وإن ادعى أنك فعلته تحيلا فأنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر وإن كان الثمن عرضا فاختلفا في قيمته رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجودا وإن كان معدوما فالقول قول المشتري في قيمته وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص فقال المشتري أنا أحدثته وقال الشفيع كان قديما فالقول قول المشتري مع يمينه ولو قال‏:‏ اشتريت نصيبك فلي فيه الشفعة وأنكر ذلك فقال‏:‏ بل اتهبته أو ورثته فالقول قوله مع يمينه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن ادعى عليه الشراء‏]‏

فإن ادعى عليه الشراء فقال‏:‏ اشتريته لفلان سئل المقر له فإن صدقه فهو له وإن كذبه فهو للمشتري ويؤخذ بالشفعة في الحالين وإن كان المقر له غائبا أخذه الشفيع بإذن الحاكم والغائب على حجته إذا قدم لأننا لو وقفنا الأمر لحضور المقر له كان ذلك إسقاطا للشفعة لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب وإن قال اشتريته لابني الطفل فهو كالغائب في أحد الوجهين وفي الآخر لا تجب الشفعة لأن الملك ثبت للطفل ولا يثبت في ماله حق بإقرار وليه عليه فأما إن ادعى عليه الشفعة في شقص فقال‏:‏ هذا لفلان الغائب أو الطفل فلا شفعة فيه لأنه قد ثبتت لهما فإقراره بذلك إقرار إلى غيره فلا يقبل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏اختلاف البائع والمشتري‏]‏

إذا اختلف البائع والمشتري فقال البائع‏:‏ الثمن ألفان وقال المشتري‏:‏ هو ألف فأقام البائع بينة بدعواه ثبتت وللشفيع أخذه بألف لأن المشتري يقر أنه لا يستحق أكثر منها وأن البائع ظلمه فلا يرجع بما ظلمه على غيره فإن قال المشتري‏:‏ غلطت والثمن ألفان لم يقبل لأنه رجوع عن إقراره فلم يقبل كما لو أقر لأجنبي وإن لم يكن بينة تحالفا وليس للشفيع أخذه بما حلف عليه المشتري لأن فيه إلزاما للعقد في حق البائع بخلاف ما حلف عليه فإن بذل ما حلف عليه البائع فله الأخذ لأن البائع مقر له بأنه يستحق الشفعة به ولا ضرر على المشتري فيه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إقرار البائع بالبيع‏]‏

وإن أقر البائع بالبيع فأنكره المشتري ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تثبت الشفعة لأن الشراء لم يثبت فلا تثبت الشفعة التابعة له ولأن البائع إن أقر بقبض الثمن لم يمكن الشفيع دفعه إلى أحد لأنه لا مدعي له ولا يمكن الأخذ بغير ثمن وإن لم يقر البائع بقبضه فعلى من يرجع الشفيع بالعهدة‏.‏

والثاني‏:‏ تثبت الشفعة لأن البائع مقر بحق للمشتري والشفيع فإذا لم يقبل المشتري قبل الشفيع وثبت حقه ويأخذ الشقص من البائع ويدفع إليه الثمن وإن لم يكن أقر بقبضه والعهدة عليه لأن الأخذ منه وإن أقر بقبض الثمن عرضناه على المشتري فإن قبله دفع إليه وإلا أقر في يد الشفيع في أحد الوجوه وفي الآخر يؤخذ إلى بيت المال‏.‏

والثالث‏:‏ يقال له‏:‏ إما أن تقبض وأما أن تبرئ وأصل هذا إذا أقبر بمال في يده لرجل فلم يعترف به‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع‏]‏

وإذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع لم يخل من خمس أضرب‏:‏

أحدها‏:‏ تصرف بالبيع وما تستحق به الشفعة فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد الثاني وبين فسخه ويأخذ بالعقد الأول لأنه شفيع في العقدين فملك الأخذ بما شاء منهما فإن أخذه بالثاني دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه وإن أخذه بالأول دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشتري به وأخذ الشقص ويرجع الثاني على الأول بما أعطاه ثمنا وإن كان ثم ثالث رجع الثالث على الثاني‏.‏

الثاني‏:‏ تصرف برد أو إقالة فللشفيع فسخ الإقالة والرد ويأخذ الشقص لأن حقه أسبق منهما ولا يمكنه الأخذ معهما‏.‏

الثالث‏:‏ وهبه أو وقفه أو رهنه أو أجره ونحوه فعن أحمد رضي الله عنه‏:‏ تسقط الشفعة لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب الموقوف عليه بالكلية وفيه ضرر بخلاف البيع لأنه يوجب رد العوض إلى غير المالك وحرمان المالك وقال أبو بكر‏:‏ تجب الشفعة لأن حق الشفيع أسبق فلا يملك المشتري التصرف بما يسقط حقه ولأنه ملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى فعلى هذا تفسخ هذه العقود ويأخذ الشقص ويدفع الثمن إلى المشتري‏.‏

الرابع‏:‏ بناء أو غرس ويتصور ذلك بأن يكون الشفيع غائبا فقاسم المشتري وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه أو أظهر ثمنا كثيرا أو نحوه فترك الشفيع الشفعة وقاسمه فبنى وغرس ثم أخذ الشفيع بالشفعة فإن اختار المشتري أخذ بنائه أو غراسه لم يمنع منه لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر ولا ضمان النقص لأنه غير متعد ويحتمل كلام الخرقي أنه يلزمه تسوية الحفر لأنه فعله في ملك غيره لتخليص ملكه فأشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها وإن لم يقلعه فللشفيع الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه وبين أو يقلعه ويضمن نقصه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏لا ضرر ولا ضرار‏]‏ من المسند رواه ابن ماجة ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك‏.‏

الخامس‏:‏ زرع الأرض فالزرع يبقى لصاحبه حتى يستحصد لأنه زرعه بحق فوجب إبقاؤه له كما لو باع الأرض المزروعة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏نماء المبيع نماء متصلا‏]‏

وإن نما المبيع نماء متصلا كغراس كبر وطلع زاد قبل التأبير أخذ الشفيع بزيادته لأنها تتبع الأصل في الملك كما تتبعه في الرد وإن كان نماء منفصلا كالغلة والطلع المؤبر والثمرة الظاهرة فهي للمشتري لأنها حدثت في ملكه وليست تابعة للأصل وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ لأن أخذ الشفيع شراء ثان فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معا أخذ الشفيع الأصل بحصته من الثمن كالشقص والسيف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏تلف بعض المبيع‏]‏

وإن تلف بعض المبيع فهو من ضمان المشتري لأنه ملكه تلف في يده وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن ويأخذ أنقاضه لأنه تعذر أخذ البعض فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه الآدمي وقال ابن حامد‏:‏ إن تلف بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن ويترك لأن في أخذه بالبعض إضرارا بالمشتري فلم يملكه كما لو أخذ البعض مع بقاء الجميع‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏متى يملك الشفيع الأخذ‏]‏

ويملك الشفيع الأخذ بغير الحاكم لأنه حق ثبت بالإجماع فلم يفتقر إلى الحكم كالرد بالعيب ويأخذه من المشتري فإن كان في يد البائع فامتنع المشتري من قبضه أخذه من البائع لأنه يملك أخذه فملكه كما لو كان في يد المشتري وقال القاضي‏:‏ يجبر المشتري على القبض ثم يأخذه الشفيع لأن أخذه من البائع يفوت به التسليم المستحق ولا يثبت للمشتري خيار لأنه يؤخذ منه قهرا ولا للشفيع بعد التملك لأنه يأخذه قهرا وذلك ينافي الاختيار ويملك الرد بالعيب لأنه مشتر ثان فملك ذلك كالأول وإن خرج مستحقا رجع بالعهدة على المشتري لأنه أخذه منه على أنه ملكه فرجع عليه كما لو اشتراه منه ويرجع المشتري على البائع‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إذن الشريك في البيع‏]‏

وإذا أذن الشريك في البيع لم تسقط شفعته لأنه إسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له وعن أحمد رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ما هو ببعيد أن لا تكون له شفعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به‏]‏ رواه مسلم يفهم منه أنه إذا باعه بإذنه لا حق له وإن دل في البيع أو توكل أو ضمن العهدة أو جعل له الخيار فاختار إمضاء البيع فهو على شفعته‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏بيع المحاباة‏]‏

وإذا كان البيع محاباة أخذ الشفيع بها لأنه بيع صحيح فلا يمنع الشفعة فيه كونه مسترخصا وإن كان البائع مريضا والمحاباة لأجنبي فيما دون الثلث أخذ الشفيع بها لأنها صحيحة نافذة وسواء كان الشفيع وارثا أو لم يكن لأن المحاباة إنما وقعت للأجنبي فأشبه ما لو وصى لغريم وارثه ويحتمل ألا يملك الوارث الشفعة ها هنا لإفضائه إلى جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة وإن كانت محاباة المريض لوارثه أو لأجنبي لزيادة على الثلث بطلت كلها في حق الوارث والزيادة على الثلث في حق الأجنبي وصح البيع في الباقي وثبت للمشتري الخيار لتفريق صفقته وللشفيع الأخذ على ذلك الوجه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏موت الشفيع قبل طلب الشفعة‏]‏

إذا مات الشفيع قبل الطلب بطلت شفعته نص عليه لأنه حق فسخ لا لفوات جزء فلم يورث كرجوع الأب في هبته ويتخرج أن يورث لأنه خيار ثبت لدفع الضرر على المال فيورث كالرد بالعيب فإن مات بعد الطلب لم يسقط لأنها تقررت بالطلب بحيث لم يسقط بتأخيره بخلاف ما قبله فإن ترك بعض الورثة حقه توفر على شركائه في الميراث كالشفعاء في الأصل‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن كان بعض العقار وقفا وبعضه طلقا‏]‏

وإن كان بعض العقار وقفا وبعضه طلقا فبيع الطلق فذكر القاضي أنه لا شفعة لصاحب الوقف لأن ملكه غير تام فلا يستفيد به ملكا تاما وقال أبو الخطاب هذا ينبني على الروايتين في ملك الوقف إن قلنا‏:‏ هو مملوك فلصاحبه الشفعة لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك فأشبه الطلق وإن قلنا‏:‏ ليس بمملوك فلا شفعة له لعد ملكه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه‏]‏

ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه لأن فيه إلزام البيع بغير رضى المتبايعين وإسقاط حقهما من الخيار وقيل‏:‏ يؤخذ بالشفعة لأن الملك انتقل فإن كان الخيار للمشتري وحده فللشفيع الأخذ لأنه يملك الأخذ من المشتري قهرا ويحتمل أن لا يملكه لأنه فيه إلزام البيع في حق المشتري بغير رضاه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الشفعة للصغير‏]‏

وللصغير الشفعة ولوليه الأخذ بها إن رأى الحظ فيها فإذا أخذ فيها لم يملك الصغير إبطالها بعد بلوغه كما لو اشترى له دارا وإن تركها مع الحظ فيها لم تسقط وملك الصغير الأخذ بها إذا بلغ وإن تركها الولي للحظ في تركها أو لإعسار الصبي سقطت في قول ابن حامد لأنه فعل ما تعين عليه فعله فلم يجز نقضه كالرد بالعيب وظاهر كلام الخرقي‏:‏ أنها لا تسقط لأن للشفيع الأخذ مع الحظ وعدمه فملك طلبها عند إمكانه كالغائب إذا قدم والمجنون كالصبي لأنه محجور عليه وإن باع الولي لأحد الأيتام نصيبا فله الأخذ بها للآخر وإن كان الولي شريكا لم يملك الأخذ بها إن كان وصيا لأنه متهم وإن كان أبا فله الأخذ لأن له أن يشتري لنفسه مال ولده وهل لرب المال الشفعة على المضارب فيما يشتريه‏؟‏ على وجهين بناء على شرائه لنفسه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الشفعة للكافر على مسلم‏]‏

ولا شفعة لكافر على مسلم لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏لا شفعة لنصراني‏]‏ رواه الطبراني في الصغير ولأنه معنى يختص العقار فلم يثبت للكافر على المسلم كالاستعلاء وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي وللذمي على الذمي للخبر والمعنى‏.‏

باب‏:‏ إحياء الموات

وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك وهي نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما لم يجر عليه ملك فهذا يملك بالإحياء لما روى جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من أحيا أرضا ميتة فهي له‏]‏ رواه أحمد والترمذي وصححه ولا يفتقر لإذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن كالصيد‏.‏

الثاني‏:‏ ما جرى عليه ملك وباد أهله ولم يعرف له مالك ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يملك بالإحياء للخبر ولما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعده‏]‏ رواه أبو عبيد في الأموال ولأنه في دار الإسلام فيملك كاللقطة‏.‏

والثانية‏:‏ لا يملك لأنه إما لمسلم أو لذمي أو بيت المال فلم يجز إحياؤه كما لو تعين مالكه ويجوز إحياء ما قرب من العامر إذ لم تتعلق بمصالحه للخبر والمعنى‏.‏

وعنه‏:‏ لا يملك لأنه لا يخلو من مصلحة فأشبه ما تعلق بمصالحه للخبر والمذهب الأول‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن تعلقت بالإحياء مصلحة غيره‏]‏

وما تعلقت به مصلحة العامر كحريم البئر وفناء الطريق ومسيل الماء ويملك بالإحياء ولا يجوز لغير مالك العامر إحياؤه لأنه تابع للعامر مملوك لصاحبه ولأن تجويز إحيائه إبطال للملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء لأنه ليس بموات وتجويز إحيائه تضييق على الناس في أملاكهم وطرقهم وهذا لا يجوز‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الإحياء من كل من يملك المال‏]‏

ويجوز الإحياء من كل من يملك المال للخبر ولأنه فعل يملك به فجاز ممن يملك المال كالصيد ويملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام لذلك وقال ابن حامد‏:‏ لا يملك فيها بالإحياء لخبر طاوس وليس للمسلم إحياء أرض في بلد صولح الكفار على المقام فيه لأن الموات تابع للبلد فلم يجز تمليكه عليهم كالعامر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏صفة الإحياء‏]‏

وفي صفة الإحياء روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أن يعمر الأرض لما يريدها له ويرجع في ذلك إلى العرف لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الإحياء ولم يبين فحمل على المتعارف فإن كان يريدها للسكنى فإحياؤها بحائط جرت عادتهم بالبناء به وتسقف فإنها لا تصلح للسكنى إلا بذلك وإن أرادها حظيرة لغنم أو حطب فبحائط جرت العادة بمثله وإن أرادها للزرع فبسوق الماء إليها من نهر أو بئر ولا يعتبر حرثها لأنه يتكرر على عام فأشبه السكنى لا يحصل الإحياء به لذلك وإن كانت أرضا يكفيها المطر فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع إما بقلع أشجارها أو أحجارها أو تنقيتها ونحو ذلك مما يعد إحياء وإن كانت من أرض البطائح فإحياؤها بحبس الماء عنها لأن إحياءها بذلك ولا يعتبر في الإحياء للسكنى نصب أبواب لأن السكنى ممكنة بدونه والرواية الثانية‏:‏ التحويط إحياء لكل الأرض لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من أحاط حائطا على أرض فهي له‏]‏ رواه أبو داود ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء كما لو أرادها حظيرة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏من يملك إحياء الموات‏]‏

وإذا أحياها ملكها بما فيها من المعادن والأحجار لأنه تملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها وإن ظهر فيها معدن جاز كالقير والنفط والماء ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يملكه لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الناس شركاء في ثلاث‏:‏ في الماء والكلأ والنار‏]‏ رواه الخلال وكذلك الحكم في الكلأ والشجر لقول البني صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا حمى في الأراك‏]‏‏.‏

والثانية‏:‏ يملك ذلك كله لأنه نماء ملكه فملكه كشعر غنمه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏من حفر بئرا في موات‏]‏

ومن حفر بئرا في موات ملك تحريمها والمنصوص عن أحمد رضي الله عنه‏:‏ أن حريم البئر البديء خمس وعشرون ذراعا من كل جانب ومن سبق إلى بئر عادية فاحتفرها فحريمها خمسون ذراعا من كل جانب لما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعا والبديء خمسة وعشرون ذراعا رواه أبو عبيد في الأموال وروى الخلال والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال القاضي‏:‏ حريمها ما تحتاج إليه من ترقية الماء منها كقدر مدار الثور إن كان بدولاب وقدر طول البئر إن كان بالسواني وحمل التحديد بالحديث وكلام أحمد رضي الله عنه على المجاز والظاهر خلافه فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء لموقف الماشية وطعن الإبل ونحوه وأما العين المستخرجة فحريمها ما يحتاج إليها صاحبها ويستضر بتمليكه عليه وإن كثر وحريم النهر‏:‏ ما يحتاج إليه لطرح كرايته وطريق شاويه وما يستضر صاحبة بتملكه عليه وإن كثر‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من تحجر مواتا وشرع في إحيائه‏]‏

ومن تحجر مواتا وشرع في إحيائه ولم يتم فهو أحق به لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به‏]‏ رواه أبو داود فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به لأن صاحب الحق آثره به فإن مات انتقل إلى وارثه لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من ترك حقا أو مالا فهو لوارثه‏]‏ وإن باعه ولم يصح لأنه لم يملكه فلم يصح بيعه كحق الشفعة ويحتمل جواز بيعه لأنه صار أحق به فإن بادر إليه غيره فأحياه لم يملكه في أحد الوجهين لمفهوم قوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به‏]‏ ولأن حق المتحجر أسبق فكان أولى كحق الشفيع في المشتري‏.‏

والثاني‏:‏ يملكه لأنه أحيا أرضا ميتة فيدخل في عموم الحديث ولأن الإحياء يملك به فقدم على التحجر الذي لا يملك به وإن شرع في الإحياء وترك قال له السلطان‏:‏ إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك لأنه ضيق على الناس في حق مشترك فم يمكن منه كالوقوف في طريق ضيق فإن سأل الإمهال أمهل مدة قريبة كالشهرين ونحوهما فإن انقضت ولم يعمر فلغيره إحياؤها وتملكها كسائر الموات‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون‏]‏

وإذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون كالملح وعيون الماء والكبريت والكحل والقار ومعادن الذهب والفضة والحديد ومقالع الطين ونحوها لم يجز لأحد إحياؤها ولا تملك بالإحياء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح فلما قيل له إنه بمنزلة الماء العد رده رواه أبو داود وقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ما يحمى هذا الأراك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏ما لم تنله أخفاف الإبل‏]‏ رواه أبو داود والترمذي ولأن هذا مما يحتاج إليه فلو ملك بالاحتجار ضاق على الناس وغلت أسعاره وكذلك ما نضب عنه الماء من الجزائر عند الأنهار الكبار قال أحمد رضي الله عنه يروى عن عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه أباح الجزائر وأنا آخذ به يعني‏:‏ ما ينبت فيها ولأن البناء فيما يرد الماء إلى الجانب الآخر فيضر بأهله ولأنها منبت الكلأ والحطب فأشبهت المعادن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم احتجار البئر الذي ينتفع به المسلمون‏]‏

وكل بئر ينتفع بها المسلمون أو عين نابعة فليس له احتجارها لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة ومن حفر بئرا لغير قصد التملك إما لينتفع بها المسلمون أو لينتفع بها مدة ثم يتركها لم يملكها وكان أحق بها حتى يرحل عنها ثم تكون للمسلمين ومن حفر بئرا للتملك فلم يظهر ماؤها لم تملك به لأنه ما تم إحياؤها وكان كالمحتجر الشارع في الإحياء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن أحيا أرضا فظهر فيها معدن‏]‏

وإن أحيا أرضا فظهر فيها معدن ملكه لأنه لم يضيق على الناس به لأنه الذي أخرجه ولو كان في الموات أرض يمكن فيها إحداث معدن ظاهر كشط البحر إذا حصل فيه ماؤه صار ملحا ملكه بالإحياء لأنه توسيع على المسلمين لا تضييق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من سبق إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة‏]‏

ومن سبق إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والملح والنفط أو باطن لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل كمعادن الذهب والحديد كان أحق به للخبر فإن أقام بعد قضاء حاجته منع منه لأنه يضيق على الناس بغير نفع فأشبه الوقوف في مشرعة ماء لا يستقي منها وإن طال مقامه للأخذ ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يمنع لأنه سبق فكان أحق كحالة الابتداء‏.‏

والثاني‏:‏ يمنع لأنه يضر كالمتحجر فإن سبق إليه اثنان يضيق المكان عنهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه وقال بعض أصحابنا‏:‏ إن كانا يأخذان للتجارة هايأه الإمام بينهما وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه أربع أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يهايئاه بينهما‏.‏

والثاني‏:‏ يقرع بينهما‏.‏

والثالث‏:‏ يقدم الإمام من يرى منهما‏.‏

والرابع‏:‏ ينصب الإمام من يأخذ لهما ويقسم بينهما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من شرع في حفر معدن‏]‏

ومن شرع في حفر معدن ولم يبلغ النيل به فهو أحق به كالشارع في الإحياء ولا يملكه وإن بلغ النيل لأن الإحياء العمارة وهذا تخريب فلا يملك به ولأنه يحتاج في كل جزء إلى عمل فلا يملك منه إلا ما أخذ لكن يكون أحق به ما دام يأخذ وإن حفر إنسان من جانب آخر فوصل إلى النيل لم يكن له منعه لأنه لم يملكه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة للبيع والشراء‏]‏

ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة للبيع والشراء لاتفاق أهل الأمصار عليه من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلا يمنع منه كالاجتياز ومن سبق إليه كان أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏منى مناخ من سبق‏]‏ وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة لأن الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره وليس له أن يبني دكة ولا غيرها لأنها تضيق ويعثر بها العابر فإن قام وترك متاعه لم يجز لغيره أن يقعد لأن يده لم تزل وإن كال القعود ففيه وجهان سبق توجيههما وإن سبق إليه اثنان ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يقرع بينهما لتساويهما‏.‏

والثاني‏:‏ يقدم الإمام أحدهما لأن له نظرا واجتهادا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏القطائع‏]‏

في القطائع هي ضربان‏:‏ إقطاع وإرفاق وهي مقاعد الأسواق والرحاب فللإمام إقطاعها لمن يجلس فيها فيصير كالسابق إليها إلا أنه أحق بها وإن نقل متاعه لأن للإمام النظر الاجتهاد فإن أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه‏.‏

الضرب الثاني‏:‏ موات الأرض فللإمام إقطاعها لمن يحييها لما روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا فأرسله معاوية‏:‏ ‏[‏أن أعطه إياها أو أعلمها إياه‏]‏ حديث صحيح وأقطع بلال بن الحارث المزني وأبيض بن حمال المازني وأقطع الزبير حضر فرسه رواه أبو داود‏.‏

وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقطعه الإمام شيئا لم بملكه لكن يصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه ولا يقطع من ذلك إلا ما قدر على إحيائه لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق فلما كان زمن عمر قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجره على الناس فخذ ما قدرت على عمارته ودع باقيه رواه أبو عبيد في الأموال‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إقطاع المعادن الظاهرة‏]‏

وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة لما ذكرنا في إحيائها وقال أصحابنا‏:‏ وكذلك المعادن الباطنة لأنها في معناها ويحتمل جواز إقطاعها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقطع بل بن الحارث معادن القبيلة جلسيها وغوريها رواه أبو داود ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن فجاز إقطاعه كالموات‏.‏

فصل‏:‏ في الحمى

لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتا يمنع الناس الرعي فيها لما روى الصعب بن جثامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏[‏لا حمى إلا لله ولرسوله‏]‏ متفق عليه رواه أبو داود وقال‏:‏ ‏[‏الناس شركاء في ثلاث‏:‏ الماء والكلأ والنار‏]‏ وللإمام أن يحمي مكانا لترعى فيه خيل المجاهدين ونعم الجزية وإبل الصدقة وضوال الناس التي يقوم بحفظها لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين لأن عمر وعثمان رضي الله عنهما حميا واشتهر في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرا في شبر رواه أبو عبيد وليس له أن يحمي قدرا يضيق به على الناس لأنه إنما جاز للمصلحة فلا يجوز ذلك بضرر أكثر منها وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا يملك بالإحياء لأن ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم نص فلم يجز نقضه بالاجتهاد وما حماه غيره من الأئمة جاز لغيره من الأئمة تغييره في أحد الوجهين وفي الآخر ليس له ذلك لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد والأول أولى لأن الاجتهاد في حماها في تلك المدة دون غيرها ولهذا ملك الحامي لها تغييرها وإن أحياه إنسان ملكه لأن حمى الأئمة اجتهاد وملك الأرض بإحيائها نص فيقدم على الاجتهاد‏.‏

باب‏:‏ الوقف

ومعناه‏:‏ تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة وهو مستحب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ علم ينتفع به من بعده وولد صالح يدعو له أو صدقة جارية‏]‏ رواه مسلم‏.‏

ويجوز وقف الأرض لما روى ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فيها‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث‏]‏ قال فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا بالمعروف غير متأثل منه أو غير متمول فيه متفق عليه‏.‏

ووقف السلاح والحيوان جائز لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله‏]‏ متفق عليه وفي رواية‏:‏ ‏[‏وأعتده‏]‏ ويصح وقف كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها دائما قياسا على المنصوص عليه ويصح وقف المشاع لأن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوقفها وهذا صفة المشاع ولأن القصد تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وهذا يحصل في المشاع كحصوله من المفرز ويصح وقف علو الدار دون سفلها وسفلها دون علوها لأنهما عينان يجوز وقفهما فجاز وقف أحدهما كالدارين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه‏]‏

ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالأثمان والمأكول والمشروب والشمع لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه ولا ما يسرع إليه الفساد كالرياحين لأنها لا تتباقى ولا ما لا يجوز بيعه كالكلب والخنزير ولا المرهون والحمل المنفرد ولا أم الولد لأن الوقف تمليك فلا يجوز في هذه كالبيع ولا يجوز في غير معين كأحد هذين العبدين وفرس وعبد لأنه نقل ملك على وجه القربة فلم يصح في غير معين كالهبة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الوقف إلا على بِر‏]‏

ولا يصح الوقف إلا على بر كالمساجد والقناطر والفقراء والأقارب أو آدمي معين مسلما كان أو ذميا لأنه في موضع القربة ولهذا جازت الصدقة عليه ولا يصح على غير ذلك كالبيع وكتب التوراة والإنجيل لأن هذا إعانة على المعصية ولأن هذه الكتب منسوخة قد بدل بعضها وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر شيئا استكتبه منها ولا على قطاع الطريق لأنه إعانة على المعصية والقصد بالوقف القربة ولا على من لا يملك كالميت والملك والجني لأن الوقف تمليك في الحياة ولا على عبد أو أم ولد لأنه لا يملك في رواية وفي أخرى‏:‏ ملكه غير لازم والوقف لا يجوز أن يكون متزلزلا ولا على حربي أو مرتد لأن ملكهما تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازما ولا على حربي أو مرتد لأن ملكهما تجوز إزالته والوقف يجب أن يكون لازما ولا على غير معين كرجل أو امرأة لأن تمليك غير المعين لا يصح فإن قيل‏:‏ فكيف جاز الوقف على المساجد‏؟‏ وهي لا تملك قلنا‏:‏ الوقف إنما هو على المسلمين لكن عين نفعا خاصا لهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏تعليق الوقف على شرط مستقبل‏]‏

ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع إلا أن يقول‏:‏ هو وقف بعد موتي فيصح ويكون وصية يعتبر خروجه من الثلث لأنه تبرع مشروط بالموت فكان وصية كما لو قال‏:‏ إذا مت فهذا صدقة للمساكين وجعل القاضي وأبو الخطاب‏:‏ تعليق الوقف على الموت كتعليقه على شرط في الحياة فلا يصح في الموضعين إلا على قول الخرقي والأولى التفريق بينهما لأن تعليقه بالموت وصية فجاز كما لو قال‏:‏ إذا مات فداري لفلان أو أبرأته من ديني عليه ولا يلزم من جواز ذلك صحة تعليق الهبة والإبراء على شرط في الحياة كذا ها هنا ولا يجوز الوقف إلى مدة لأنه إخراج مال على سبيل القربة فلم يجز إلى مدة كالصدقة فإن شرط فيه الخيار أو شرط فيه الرجوع إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو لم يدخل فيه من شاء لم يصح لأنه إخراج ملك على سبيل القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن شرط أن يأكل من الوقف أيام حياته أو مدة يعينها‏]‏

وإن شرط أن يأكل منه أيام حياته أو مدة يعينها فله شرطه نص عليه أحمد رضي الله عنه واحتج بما روى حجر المدري أن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أهله بالمعروف غير المنكر ولأن عمر رضي الله عنه قال في وقفه‏:‏ لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا وكان الوقف في يده إلى أن مات ولأنه لو وقف وقفا عاما كالسقاية والمسجد لكان له أن ينتفع منه كذلك إذا خصه بانتفاعه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن وقف على نفسه ثم على أولاده‏]‏

وإن وقف على نفسه ثم على أولاده ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يصح لأن الوقف تمليك فلم يصح أن يملك نفسه به كالبيع‏.‏

والثانية‏:‏ يصح لأنه لما جاز أن يشترط لنفسه منه شيئا جاز أن يختص به أيام حياته كالوصية‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم الوقف على سبيل منقطع‏]‏

ولا يكون الوقف إلا على سبيل غير منقطع كالفقراء والمساكين وطلبة العلم والمساجد أو على رجل بعينه ثم على ما لا ينقطع فإن وقفه على رجل بعينه وسكت صح وكان مؤبدا لأن مقتضاه التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه وفيما سكت عنه على مقتضاه ويصير كأنه وقف مؤبد أو قدم المسمى على غيره فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقارب الواقف لأنهم أحق الناس بصدقته بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏صدقتك على غير رحمك صدقة وصدقتك على رحمك صدقة وصلة‏]‏‏.‏

وعنه‏:‏ أنه يرجع إلى المساكين لأنها مصارف الصدقات المفروضات كالزكوات والكفارات‏.‏

والأول‏:‏ ظاهر المذهب وظاهر كلام أحمد رضي الله عنه والخرقي‏:‏ أنه يرجع إلى الأغنياء والفقراء من أقاربه لأن الوقف يستوي فيه الغني والفقير ويحتمل أن يختص الفقراء لأنهم مصرف الصدقات ويرجع إلى جميع الورثة في إحدى الروايتين لأنه يصرف إليهم ماله عند موته‏.‏

والثانية‏:‏ يرجع إلى أقرب عصبة الواقف لأنه مصرف ولاء معتقه وعليهم عقله فخصوا بهذا ويكون وقفا على من رجع إليه لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له والوقف يقتضي التأبيد فإذا انقرضوا رجع إلى المساكين وإن لم يكن له أقارب رجع إلى المساكين ليعيلهم ولو جعل الانتهاء مما لا يجوز الوقف عليه فقال‏:‏ وقفت على أولادي ثم على البيع فحكمه حكم ما لم يسم له انتهاء لأن ذكر ما لا يجوز كعدمه وإن قال‏:‏ وقفت داري ولم يذكر سبلها صح في قياس المذهب لأنه إزالة ملك على سبيل القربة فصح مطلقا كالعتق وحكمه حكم منقطع الانتهاء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن قال‏:‏ وقفت على هذا العبد ولم يذكر له مالا‏]‏

فإن قال‏:‏ وقفت على هذا العبد ولم يذكر له مالا فهو باطل لأنه منقطع الابتداء والانتهاء وإن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه فقال‏:‏ ثم على المساكين صح لأنه جمع فيه بين ما يجوز وما لا يجوز فصح كما لو وقفه على أولاده ثم على البيع ويحتمل أن يخرج صحته على الروايتين في تفريق الصفقة فإن قلنا بصحته وكان من لا يصح الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه كالميت والمجهول صرف في الحال إلى من يجوز لأن ذكر من لا يجوز كعدمه وإن أمكن اعتبار انقراضه كعبد معين احتمل ذلك أيضا لذلك واحتمل أن يصرف إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه ثم يصرف إلى من يجوز لأن وقفه على من يجوز مشروط بانقراض من لا يجوز فكان الوقف قبل ذلك لا مصرف له فصرف إلى الأقارب كمنقطع الانتهاء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الوقف بالقول أو الفعل الدال عليه‏]‏

ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه أو مقبرة ويأذن لهم في الدفن فيها أو سقاية ويشرع بابها ويأذن في دخولها لأن العرف جار به وفيه دلالة على الوقف فجاز أن يثبت به كالقول وجرى مجرى من قدم طعاما لضيفانه أو نثر نثارا أو صب في خوابي السبيل ماء وأما القول فألفاظه ستة ثلاثة صريحة وهي‏:‏ وقفت وحبست وسبلت متى أتى بواحدة منها صار وقفا لأنه ثبت لها عرف الاستعمال وعرف الشرع بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه‏:‏ ‏[‏إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها‏]‏ فصارت كلفظ الطلاق فيه وثلاثة كناية وهي‏:‏ تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات فإن نوى بها الوقف أو قرن بها لفظا من الألفاظ الخمسة أو حكم الوقف بأن يقول‏:‏ صدقة محبسة أو محرمة أو مؤبدة أو صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفا لأنه لا يحتمل مع هذه القرائن إلا الوقف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة‏]‏

ولا يجوز التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر‏:‏ ‏[‏لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث‏]‏ ولأن مقتضى الوقف التأبيد وتحبيس الأصل بدليل أن ذلك من بعض ألفاظه والتصرف في رقبته ينافي ذلك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏زوال ملك الواقف عن الوقف‏]‏

والوقف يزيل ملك الواقف لأنه يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فأزال ملكه عن الرقبة كالعتق ويزيل الملك بمجرد لفظه لأن الوقف يحصل به‏.‏

وعنه‏:‏ لا يحصل إلا بإخراجه عن يده‏.‏

قال أحمد‏:‏ الوقف المعروف أن يخرجه من يده ويوكل من يقوم به لأنه تبرع فلم يلزم بمجرده كالهبة والوصية والأول المشهور لحديث عمر رضي الله عنه ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث فلزم بمجرده كالعتق ولا يفتقر إلى قبول ويحتمل أنه متى كان على آدمي معين افتقر إلى القبول لأنه تبرع لآدمي معين أشبه الهبة فإن لم يقبل أو رده بطل في حقه ولم يبطل في حق من بعده وصار كالوقف على من لا يصح ثم على من يصح وعلى الظاهر من المذهب أنه لا يفتقر إلى القبول ولا يبطل برده لأنه إزالة ملك على وجه القربة أشبه العتق والوقف على غير معين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏انتقال الملك في الوقف إلى الموقوف عليه‏]‏

وينتقل الملك في الوقف إلى الموقوف عليه في ظاهر المذهب لأنه سبب نقل الملك ولم يخرجه عن المالية وجد إلى من يصح تمليكه أشبه البيع والهبة‏.‏

وعنه‏:‏ لا يملكه ويكون الملك لله تعالى لأنه حبس للعين وتسبيل للمنفعة على وجه القربة فأزال الملك إلى الله سبحانه كالعتق‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ملك الموقوف عليه غلة وثمرة الوقف‏]‏

ويملك الموقوف عليه غلته وثمرته وصوفه ولبنه لأنه من غلته فهو كالثمرة ويملك تزويج الأمة لأنه عقد على نفعها فأشبه إجارتها ويملك مهرها لأنه بدل نفعها أشبه أجرتها وإن ولدت فولدها وقف معها لأن الوقف حكم ثبت في الأم فسرى إلى الولد كالاستيلاد والكتابة ولا يملك الموقوف عليه وطأها لأن ملكه فيها ضعيف ولا يؤمن إفضاؤه إلى إخراجها من الوقف فإن وطئها فلا حد عليه لأنها ملكه ولا مهر عليه لذلك وإن لم تلد منه فهي وقف بحالها وإن ولدت منه فالولد حر لأنه من مالكها وعليه قيمته يوم الوضع لأنه فوت رقه ويشتري بها عبدا يكون وقفا مكانه وتصير أم ولد له لأنه أحبلها بحر في ملكه فإذا مات عتقت ووجبت قيمتها في تركته حينئذ لأنه أتلفها على من بعده ويشتري بالقيمة جارية تكون وقفا مكانها وإن قلنا‏:‏ ليست ملكا له لم تصر أم ولد بوطئه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن أتلف الوقف أجنبي أو الواقف أو الموقوف عليه‏]‏

وإن أتلف الوقف أجنبي أو الواقف أو الموقوف عليه فعليه قيمته يشتري بها مثله يقوم مقامه لأن الموقوف عليه لا يملك التصرف في رقبته إنما له نفعه وإن وطئت الجارية بشبهة فولدها حر وعلى الوطئ قيمته يوم وضعه يشتري بها ما يقوم مقامه وإن جنى الوقف تعلقت جنايته بالموقوف عليه لأنه يملكه ولم تتعلق بالوقف لأن رقبته محلا للبيع فتعلقت بمالكه كأم الولد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏مصارف غلة الوقف‏]‏

وتصرف الغلة على ما شرط الواقف من التسوية والتفضيل والتقديم والتأخير والجمع والترتيب وإدخال من أدخله بصفة وإخرج من أخرجه بصفة لأنه ثبت بوقفه فوجب أن يتبع فيه شرطه ولأن عمر رضي الله عنه وقف أرضه على الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف وجعل لمن وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا ووقف الزبير على ولده وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضرا بها وإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الوقف على الأولاد‏]‏

فإذا قال‏:‏ وقفت على أولادي دخل فيه الذكر منهم والأنثى والخنثى لأن الجميع أولاد وهل يدخل فيه ولد الولد‏؟‏ فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يدخلون لأنهم دخلوا في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهو يرثها إن لم يكن لها ولد‏}‏ فعلى هذه الرواية يدخل ولد البنين دون ولد البنات لأن ولد البنين هم الذين دخلوا في النص دون ولد البنات‏.‏

قال الشاعر‏:‏

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأجانب

والثانية‏:‏ لا يدخل ولد الولد لأن ولده حقيقة ولد صلبه والكلام بحقيقته إلا أن يقرن به ما يدل على إدخالهم كقوله‏:‏ وقفت على أولادي لولد الذكور الثلثان وولد الإناث الثلث ونحوه فإن قال‏:‏ وقفت على أولادي فإذا انقرض أولاد أولادي فهو على المساكين دخل أولاد الأولاد في الوقف لأن قرينة اشتراط انقراضهم دليل على أنهم أريدوا به وقيل‏:‏ لا يدخلون أيضا لأن اللفظ لا يتناولهم بل يكون وقفا منقطع الوسط يصرف بعد أولاده إلى مصرف الوقف المنقطع فإذا انقرض أولاد أولاده صرف إلى المساكين وإن وصل لفظه بما يقتضي تخصيص أولاده فقال‏:‏ وقفت على ولدي لصلبي أو قال‏:‏ على أولادي ثم على أولادهم اختص بالولد وجها واحدا ومتى كان الوقف على الأولاد مطلقا سوي فيه بين الذكر والأنثى والخنثى لاقتضاء لفظه التسوية كقوله تعالى في ولد الأم ‏{‏فهم شركاء في الثلث‏}‏ وإن كان في لفظه تفضيل بعضهم فهو كذلك وإن كان له حمل لم يدخل في الوقف حتى ينفصل ثم يستحق ما يحدث من الغلة بعد انفصاله دون ما كان موجودا قبله كالثمرة المؤبرة والزرع المدرك لأنه لا يسمى ولدا قبل الانفصال وإن نفي ولده بلعان خرج من الوقف لخروجه عن كونه ولدا له‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن وقف على بنيه‏]‏

وإن وقف على بنيه لم يدخل فيه بنت ولا خنثى لأنه لم يعلم كونه ابنا وإن وقف على بناته لم يدخل فيه ذكر ولا خنثى وإن وقف على ولد فلان أو بنيه أو بناته فهو كوقفه على ولد نفسه وبنيه وبناته إلا أن يقف على بني فلان وهم قبيلة كبني هاشم فيدخل فيه الذكر والأنثى والخنثى من ولد البنين دون البنات لأن هذا الاسم يقع على القبيلة ذكرهم وأنثاهم وولد البنات لا يعدون منها‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الوقف على الأولاد وأولاد الأولاد‏]‏

وإن وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل في الوقف أولاده الذكور والإناث والخناثى وأولادهم الذكور والإناث والخناثى من ولد البنين فأما ولد البنات فقال الخرقي‏:‏ لا يدخلون لأنهم لم يدخلوا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ولا يدخلون في الوقف على ولد فلان وهم قبيلة فلا يدخلون ها هنا ولأنهم إنما ينسبون إلى قبيلة آبائهم دون قبيلة أمهاتهم وقال أبو بكر وابن حامد‏:‏ يدخلون في الوقف لأنهم أولاد أولاده وإن قال‏:‏ وأولاد أولادي المنتسبين إلي لم يدخلوا وجها واحدا وإن قال‏:‏ لولد الذكر سهمان ولولد الأنثى سهم دخلوا فيه لأنه صرح بدخولهم ولو وقف على قوم بأعيانهم ثم على أولادهم وكانوا ذكورا وإناثا دخل أولاد الإناث في الصحيح لأن اللفظ تناولهم كتناوله ولد البنين وإن كان جميعهم إناثا دخل في أولادهن لأن لفظه نص فيهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏المشاركة بين الولد وولد الولد‏]‏

وإذا شرك بين الولد وولد الولد بالواو اشترك الجميع فيه وإن رتب فقال‏:‏ على أولادي ثم على أولادهم أو قال‏:‏ الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب وجب ترتيبه وإن رتب بطنين ثم شرك بين الباقين أو شرك بين بطنين ثم رتب الباقين فهو على ما شرطه وكيفما شرط فالأمر عليه لأن الوقف ثبت بلفظه فوجب أن يتبع مقتضاه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الوقف على الأقرباء‏]‏

وإن وقف على قرابته أو قرابة فلان فهو لولده وولد أبيه وجده وجد أبيه الذكر والأنثى ولا يعطى من بعد ذلك ولا قرابته من جهة أمه شيئا لأن الله تعالى جعل خمس الخمس لذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم قرابته إلى بني هاشم لم يتجاوزهم ولم يعط بني زهرة شيئا ويحتمل أن يعطي كل من عرف قرابته من الجهتين لأن الاسم واقع عليهم لغة وعرفا‏.‏

وعنه‏:‏ إن لم يصل قرابته من جهة أمه في حياته دخلوا فيه وإلا فلا لأن صلته لهم في حياته تدل على إرادتهم بصلته هذه وإن وجدت قرينة لفظية أو حالية تدل على إرادتهم أو حرمانهم عمل عليه وأهل بيته بمثابة قرابته وقال الخرقي‏:‏ إذا أوصى لأهل بيته أعطي من قبل أبيه وأمه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن وقف على أقرب الناس إليه‏]‏

وإن وقف على أقرب الناس إليه وله أبوان وولد فهم سواء فيه لأن كل واحد منهم يليه في القرب من غير حاجز ولأنه جزء والده وولده جزؤه ويحتمل تقديم الابن لتقديمه في التعصيب وإن عدم بعضهم فهم للباقين ويقدم كل واحد من هؤلاء على من سواهم لأن سواهم يدلي بواسطة وإن عدموا فهو لولد الابن أو الجد أبي الأب الأقرب منهم فالأقرب فإن عدموا فهو للإخوة لأنهم ولد الأب ويقدم الأخ من الأبوين ويسوى بين الأخ من الأب والأخ من الأم وكذلك الأخوات فإن عدموا صرف إلى بنيهم على ترتيب آبائهم ويسوى بين الأخ والجد لاستوائهما في الميراث ولأن الجد أبو الأب والأخ ولد الأب ويحتمل تقديم الجد لأن له ولادة وهو أقوى في الميراث وقيل يقدم الأخ لأنه ابن الأب فيكون أقوى من أبيه لقوة تعصيبه فإن لم يكن له إخوة فهو للأعمام ثم بنيهم على ترتيب الميراث وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة منهم فإن كان بعضهم أقرب من بعض استوفي ما أمكن من الأقرب وتمم الباقي من الأبعد لأنه شرط العدد والأقرب فوجب اعتبارهما وإن استوى جماعة في القرب أعطي الجميع لتساويهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الوقف على العترة‏]‏

وإن وقف على عترته فهم عشيرته وولده قاله ابن قتيبة وقال ابن الأعرابي وثعلب‏:‏ هم ذريته والأول أولى لأنه يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ نحن عترة النبي صلى الله عليه وسلم وإن وقف على مواليه وله موال من فوق وموال من أسفل فهو لجميعهم لأن الاسم يشملهم حقيقة وإن وقف على زيد وعمرو والفقراء فلهما الثلثان وللفقراء فمن مات منهما رجع نصيبه إلى صاحبه فإذا ماتا رجع إلى الفقراء لأنه جعله لهم مشروطا بانقراضهما‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن وقف نخلة فيبست أو جذوعا فتكسرت‏]‏

وإن وقف نخلة فيبست أو جذوعا فتكسرت جاز بيعها لأنه لا نفع في بقائها وفيه ذهاب ماليتها فكانت المحافظة على ماليتها ببيعها أولى لأنه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداء فلا يجوز استدامة وقفه لأن ما كان شرطا لابتداء الوقف كان شرطا لاستدامته كالمالية وإذا بيعت صرف ثمنها في مثلها وإن حبس فرسا في سبيل الله فصارت بحيث لا ينتفع بها فيه بيعت لما ذكرنا وصرف ثمنها في حبيس آخر وإن وقف مسجدا فخرب وكان في مكان لا ينتفع به بيع وجعل في مكان ينتفع به لما ذكرنا وكل وقف خرب ولم يرد شيئا بيع واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف وإن وقف على ثغر فاختل صرف إلى ثغر مثله لأنه في معناه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏النفقة على الوقف‏]‏

وينفق على الوقف من حيث شرط الواقف لأنه لما اتبع شرط الواقف في سبله كذلك في النفقة عليه فإن لم يشرط النفقة عليه أنفق عليه من غلته لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة عليه فإن لم يكن له غلة أنفق عليه الموقوف عليه لأنه ملكه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏النظر في الوقف‏]‏

وينظر في الوقف من حيث شرط الواقف لأن عمر رضي الله عنه‏:‏ جعل النظر في وقفه إلى حفصة ابنته ثم إلى ذوي الرأي من أهلها ولأن سبله إلى شرطه فكذلك النظر فيه وإن لم يشرط الناظر ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ينظر فيه الموقوف عليه لأنه ملكه وغلته له فكان نظره إليه كالمطلق‏.‏

والثاني‏:‏ إلى حاكم البلد لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه ففوض الأمر فيه إلى الحاكم فإن جعله إلى اثنين من أفاضل ولده جعل إليهما فإن لم يوجد فيهما إلا فاضل واحد ضم الحاكم إليه آخر لأن الواقف لم يرض بنظر واحد‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏اختلاف أرباب الوقف فيه‏]‏

وإن اختلف أرباب الوقف فيه رجع إلى الواقف لأن الوقف ثبت بقوله فإن لم يكن تساووا فيه لأن الشركة ثبتت ولم يثبت التفضيل فوجبت التسوية كما لو شرك بينهم بلفظه‏.‏

باب‏:‏ أحكام المياه

وهي ضربان‏:‏ مباح وغيره فغير المباح ما ينبع في أرض غير مملوكة فصاحبه أحق به لأنه يملكه في رواية وفي الأخرى لا يملكه إلا أنه ليس لغيره دخول أرضه بغير إذنه وما فضل عن حاجته لزمه بذله لسقي ماشية غيره لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته‏]‏ ولا يلزمه الحبل والدلو لأنه يتلف بالاستعمال فيتضرر به فأشبه بقية ماله وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يلزمه لأن الزرع لا حرمة له في نفسه‏.‏

والثانية‏:‏ يلزمه لما روى إياس بن عبد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء رواه أبو داود وإن لم يفضل عنه شيء لم يلزمه بذله لأن الوعيد على منع الفضل يدل على جواز منع غيره ولأن ما يحتاج إليه يستضر ببذله فلم يجب بذله كحبله ودلوه‏.‏

الضرب الثاني‏:‏ الماء النابع في الموات فمن سبق إلى شيء منه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به‏]‏ وإن أراد أن يسقي أرضا وكان الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه جاز أن يسقي كيف شاء لأنه لا ضرر فيه على أحد وإن كان نهرا صغيرا أو من مياه الأمطار بدئ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب ثم يرسل إلى الذي يليه كذلك إلى الآخر لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم‏:‏ أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينيب‏:‏ ‏[‏يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل‏]‏ أخرجه مالك في الموطأ وعن عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏استق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك‏:‏ فغضب الأنصاري فقال‏:‏ إن كان ابن عمتك‏!‏ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر‏]‏ متفق عليه‏.‏

وشراج الحرة‏:‏ مسايل الماء جمع شرج وهو النهر الصغير ولأن السابق إلى أول النهر كالسابق إلى أولى المشرعة وإن كانت أرض الأول بعضها أنزل من بعض سقى كل واحدة على حدتها فإن أراد إنسان إحياء أرض على النهر بحيث إذا سقاها يستضر أهل الأرض الشاربة منه منع منه لأن من ملك أرضا كانت له حقوقها ومرافقها واستحقاق السقي من هذا النهر من حقوقها فلا يملك غير إبطاله‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الحكم إن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها‏]‏

فإن اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها وكان بينهم على ما اتفقوا عليه عند استخراجها فإن اتفقوا على سقي أرضهم منها بالمهايأة جاز وإن أرادوا قسمته بنصب حجر أو خشبة مستوية في مصدم الماء فيها نقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز وتخرج حصة كل واحد منهما في ساقيته منفردة وإن أراد أحدهما أن يسقي نصيبه أرضا لا حق لها في الشرب منه فله ذلك لأن الماء لا حق لغيره فيه فكان له التصرف فيه كيف شاء كما لو انفرد بالعين وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه يجعل لهذه الأرض رسما في الشرب منه فمنع منه كما لو كان له داران متلاصقتان في دربين أراد فتح أحدهما إلى الأخرى وليس لأحدهما فتح ساقية في جانب النهر قبل المقسم يأخذ حقه فيها ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء ولا غير ذلك لأن حريم النهر مشترك فلم يملك التصرف فيه بغير إذن شريكه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم من سبق إلى مباح‏]‏

ومن سبق إلى مباح كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين وثمر الشجر المباح والبلح وما ينبذه الناس رغبة عنه فهو أحق به للخبر فإن استبق إليه اثنان قسم بينهما لأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في المملوك به كما لو ابتاعاه‏.‏

باب‏:‏ الهبة

وهي التبرع بتمليك مال في حياته وهي مستحبة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏تهادوا تحابوا‏]‏ وهي أفضل من الوصية لما روى أبو هريرة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الصدقة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت‏:‏ لفلان كذا ولفلان كذا‏]‏ رواه البخاري ومسلم بمعناه‏.‏

وهبة القريب أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله‏]‏ وفي هبة القريب صلتها ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية لما روى النعمان بن بشير قال‏:‏ تصدق علي أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة‏:‏ لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي فقال‏:‏ ‏[‏أكل ولدك أعطيت مثله‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم‏]‏ قال‏:‏ فرجع أبي فرد تلك الصدقة رواه مسلم في لفظ‏:‏ ‏[‏لا تشهدني على جور‏]‏ متفق عليه فسماه جورا والجور حرام ولأن ذلك يوقع العداوة وقطيعة الرحم فمنع منه كنكاح المرأة على عمتها فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين‏:‏ إما رد عطية الأول أو إعطاء الآخر مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برده وأمره يقتضي الوجوب فإن مات ولم يسو بينهم ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يثبت ذلك لمن وهب له ويسقط حق الرجوع اختاره الخرقي ولأنه حق للأب يتعلق بمال الولد فسقط بموته كالأخذ من ماله‏.‏

والثانية‏:‏ يجب رده وهذا اختيار ابن بطة وصاحبه أبي حفص لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوازا والجور يجب رده بكل حال والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت فأشبه الميراث‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم تخصيص بعض الولد بالهبة‏]‏

فإن خص بعض ولده لغرض صحيح من زيادة حاجة أو عائلة أو اشتغاله بعلم أو لفسق الآخر وبدعته فقد روي عن أحمد رضي الله عنه ما يدل على جوازه لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف‏:‏ لا بأس به إذا كان في سبيل الحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة‏:‏ كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقا ووددت أنك حزتيه وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هما أخواك وأختاك ويحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيرا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الأم كالأب في التسوية بين الأولاد‏]‏

والأم كالأب في التسوية بين الأولاد لأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولا تجب التسوية بين سائر الوراث لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن لبشير زوجة فلم يأمره بإعطائها حين أمره بالتسوية بين أولاده‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏ما يجوز هبته‏]‏

وما جاز بيعه من مقسوم أو مشاع أو غيره جازت هبته لأنه عقد يقصد به تمليك العين فأشبه البيع وجوز هبة الكلب وما يباح الانتفاع به من النجاسات لأنه تبرع فجاز في ذلك كالوصية ولا يجوز في مجهول ولا معجوز عن تسليمه ولا في المبيع قبل قبضه لأنه عقد يقصد به التمليك في الحياة أشبه البيع ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لذلك والحكم في الإيجاب والقبول فيها كالحكم في البيع على ما ذكر في بابه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏متى يثبت ملك الهبة للموهوب‏؟‏‏]‏

ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه لحديث أبي بكر رضي الله عنه وروي عن عمر رضي الله عنه نحوه فإن مات الموهوب له قبل القبض بطلت لأنه غير لازم فيبطل بالموت كالشركة وإن مات الواهب فعنه ما يدل على أن الهبة تبطل لذلك وهو قول القاضي وقال أبو الخطاب‏:‏ لا تبطل لأنه عقد مآله إلى اللزوم فلا يبطل بالموت كبيع الخيار ويقوم الوارث مقام المورثون في التقبيض والفسخ فإذا قبض ثبت الملك حينئذ والخبرة في التقبيض إلى الواهب لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه كالإيجاب ولا يجوز القبض إلا بإذنه لأنه غير مستحق عليه فإن القبض بغير إذنه لم تتم الهبة وإن أذن ثم رجع قبل القبض أو مات بطل الإذن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏كيفية ثبوت هبة غير المكيل والموزون‏]‏

وأما غير المكيل والموزون ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا تتم هبته إلا بالقبض لأنه نوع هبة فلم تتم قبل القبض كالمكيل والموزون‏.‏

والثانية‏:‏ تتم قبل القبض لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا‏:‏ الهبة إذا كانت معلومة فهي جائزة قبضت أو لم تقبض ولأن الهبة أحد نوعي التمليك فكان منها ما يلزم قبل القبض كالبيع وقد ذكرنا اختلاف تفسير أصحابنا للمكيل والموزون في البيع ون كان الموهوب في يد المتهب لم يحتج إلى قبض لأن قبضه مستدام وهل يفتقر إلى إذن في القبض‏؟‏ فيه روايتان وذكر القاضي‏:‏ أنه لا بد من مضي مدة يتأتى قبضه فيها لما ذكرنا في الرهن‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الهبة للصغير‏]‏

فإن وهب لابنه الصغير شيئا وقبضه له صح ولزم لأنه وليه فكان له القبض كما لو كان الواهب أجنبيا ويكون حكم القبض حكمه فيما إذا وهب له رجل شيئا في يده لأنه في يد الأب‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الهبة المطلقة‏]‏

والهبة المطلقة لا تقتضي ثوابا سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى لأنها عطية على وجه التبرع فلم تقتض ذلك كالصدقة وإن شرط ثوابا معلوما صح وكانت بيعا يثبت فيه الخيار والشفعة وضمان العهدة وحكي عن أحمد رواية ثانية‏:‏ أنه يغلب فيها حكم الهبة فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به وإن شرط ثوابا مجهولا احتمل أنه لا يصح لأنه عوض مجهول في معاوضة فلم يصح كالبيع‏.‏

وعنه‏:‏ أنه يصح ويعطيه ما يرضيه أو يردها ويحتمل أن يعطيه قيمتها فإن لم يفعل فللواهب الرجوع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها قال أحمد‏:‏ إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان ولم يثبه منها فلا أرى عليه نقصان ما نقص إلا أن يكون ثوابا لبسه أو جارية استخدمها أو استعملها فإن اختلفا فقال‏:‏ وهبتك ببدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر لأنه ادعى عليه بدلا الأصل عدمه‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الهبة لغير ولده‏]‏

وإن وهب لغير ولده شيء وتمت الهبة لم يملك الرجوع فيه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏العائد من هبته كالعائد في قيئه‏]‏ متفق عليه وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏لا يحل لرجل أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده‏]‏ رواه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏

وإن وهب الرجل لولده فله الرجوع للخبر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشيرا برد ما وهب لولده النعمان ولأن الأب لا يتهم في رجوعه لأنه لا يرجع إلا لضرورة أو إصلاح الولد وليس للجد الرجوع لأن الخبر يتناول الوالد حقيقة وليس الجد في معناه لأنه يدلي بواسطة ويسقط الأب ولا تسقط الإخوة فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها لأنه لا ولاية لها على ولدها بخلاف الأب ويحتمل أن لها الرجوع لأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية فأشبهت الأب والهبة والصدقة سواء في ذلك بدليل أن في حديث النعمان بن بشير‏:‏ فرجع أبي فرد تلك الصدقة وعن أحمد رضي الله عنه ليس للأب الرجوع في هبته أيضا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏العائد في هبته كالعائد في قيئه‏]‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏شروط الرجوع في الهبة‏]‏

وللرجوع في الهبة شروط أربعة‏:‏

أحدها‏:‏ أن تكون باقية في ملكه لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره فإن عادت إلى الابن بفسخ العقد فله الرجوع فيها لأنه عاد حكم العقد الأول وإن عادت بسبب آخر فلا رجوع له لأنه ما استفاد هذا الملك بهبة أبيه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون تصرف الابن فيها باقيا فإن استولد الأمة أو رهنها أو حجر عليه لفلس سقط الرجوع لما فيه من إسقاط حق الغرماء والمرتهن ونقل ملك فيما لا يقبل النقل فإن زال الحجر والرهن فله الرجوع لزوال المالك‏.‏

الثالث‏:‏ أن لا يزيد زيادة متصلة كالسمن والتعلم فإن زادت ففي الرجوع روايتان كالروايتين في الرجوع على المفلس وإن كانت منفصلة لم يمنع الرجوع والزيادة للابن لأنها نماء منفصل في ملكه فكانت له كنماء المبيع المعيب‏.‏

الرابع‏:‏ أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد نحو أن يرغب الناس في تزويجه فيزوجوه من أجله أو يداينوه فإن تعلقت بها رغبة ففيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا رجوع فيها لأنه إضرار بالغير فلم يجز كالرجوع فيها بعد فلس الابن‏.‏

والثانية‏:‏ له ذلك لعموم الحديث ولأنه حق الغير لم يتعلق بهذا المال أشبه ما لو لم يتزوج‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء‏]‏

وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا يجحف للابن ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته‏.‏

الثاني‏:‏ أن لا يأخذ من مال أحد ولديه فيعطيه للآخر لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى فإذا وجد الشرطان جاز الأخذ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏أنت ومالك لأبيك‏]‏ رواه سعيد وابن ماجه‏.‏

وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم‏]‏ رواه سعيد والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن ولأنه يتصرف في مال ولده الصغير بغير تولية أشبه مال نفسه وليس للابن مطالبة أبيه بلدين له عليه لما ذكرنا قال أحمد رضي الله عنه‏:‏ وإذا مات بطل دين الابن قال بعض أصحابنا‏:‏ يعني ما أخذه على سبيل التملك فأما إن أخذه على غير ذلك رجع الابن في تركته وليس للأم الأخذ من مال ولدها بغير إذنه لا للجد ولا سائر الأقارب لعدم الخبر فيهم وامتناع قياسهم على الأب لما بينهما من الفرق ويحتمل أن يجوز للأم لدخول ولدها في عموم قوله‏:‏ أولادكم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حكم تصرف الأب في مال ابنه‏]‏

وإن تصرف الأب بمال ابنه قبل تملكه لم يصح تصرفه نص عليه احمد فقال‏:‏ لا يجوز عتقه لعبد ابنه ما لم يقبضه وكذلك إبراؤه من دينه وهبته لماله لأن ملك الابن باق عليه بدليل صحة تصرفه فيه ووطئه لجواريه وجريان الربا بينه وبين أبيه فأشبه مال الأجنبي وإن وطئ الأب جارية ابنه قبل تملكها فلا حد عليه للشبهة وإن لم تلد فهي على ملك الابن وإن ولدت فولده حر وتصير أم ولد له‏.‏

فصل‏:‏ في العمرى

وهي أن يقول‏:‏ أعمرتك هذه الدار حياتك أو جعلتها لك عمرك أو عمري ولها ثلاث صور‏:‏

إحداهن‏:‏ أن يقول‏:‏ أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك من بعدك فهذه هبة صحيحة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا‏]‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏

الثانية‏:‏ أن يقول‏:‏ أعمرتكها حياتك ولم يزد ففيها روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ هي كالأولى للخبر وجاء في لفظ‏:‏ ‏[‏قضى رسول الله بالعمرى لمن وهبت له‏]‏ متفق عليه ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك وتنتقل إلى الورثة فلم يكن تقدريه بحياته منافيا لحكم الإملاك‏.‏

والثانية‏:‏ يرجع بعد موته إلى المعمر لما روى جابر قال‏:‏ إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ هي لك ولعقبك فأما إذا قال‏:‏ هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها متفق عليه‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يقول مع ذلك‏:‏ فإذا مت عادت إلي إن كنت حيا أو إلى ورثتي والرقبى مثل ذلك إلا أنه يقول‏:‏ إن مت قبلي عادت إلي وإن مت قبلك فهي لك أو يقول‏:‏ أرقبتك داري هذه وقال مجاهد‏:‏ هي أن يقول‏:‏ للآخر مني ومنك موتا ففيها روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ هي لازمة لا تعود إلى الأول لعموم الخبر الأول ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏لا ترقبوا فمن أرقب شيئا فهو له في حياته وموته‏]‏ ولأنه شرط أن يعود إليه بعدما زال ملكه فلم يؤثر كما لو شرطه بعد لزوم العقد‏.‏

والثانية‏:‏ ترجع إلى المعمر والمرقب لحديث جابر ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏المؤمنون عند شروطهم‏]‏ وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان لأنها نوع هبة فجازت في ذلك كله كسائر الهبات ولو شرط في الهبة شرطا منافيا لمقتضاها نحو أن يقول‏:‏ وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه أو بشرط أن تبيعه أو تهبه فسد الشرط وفي صحة العقد وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع وإن قيدها فقال‏:‏ وهبتكها سنة لم يصح لأنه عقد ناقل للملك في الحياة أشبه البيع والله أعلم‏.‏